فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (النحل: 70)، وفي سورة الحج: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج: 5] للسائل أن يسأل عن زيادة {من} في قوله: {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} وسقوطها من آية النحل مع اتحاد المعنى، هل ذلك لسبب حامل يقتضي زيادتها هنا وسقوطها هناك؟
والجواب: أن سبب ذلك- والله أعلم- التناسب وتشاكل النظم ومراعاة اللفظ ألا ترى إلى تكرر {من} في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5)، فقد تكررت لفظة {من} هذه في هذا الآية في ستة مواضع، الخمسة منها قبل قوله: {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} والواحدة بعدها، وكلها محرزة معناها الذي جيء بها من أجله إلا التي في قوله: {من بعد} إذ النظم مع سقوطها ملتئم والمعنى تام، فاستوى وجودها وعدمها، فاستعاها سياق آية الحج للتشاكل والتناسب في النظم، ولم يكن في آية النحل ما يستدعيها إذ لم يرد ما يقتضيها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن العكس والأولى في قوله: {من البعث} لابتداء الغاية وما بعدها للتبعيض إلا التي في قوله: {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} فإنها زائدة رعيًا للفظ لا النافية، وإن كانت هنا مزيدة. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)}.
أوحى إلى النحل: أراد به وحي إلهام.، ولما حَفِظَ الأمر وأكل حلالًا، طَابَ مأكلُه وجعل ما يخرج منه شفاء للناس.
ثم إن الله سبحانه عَرَّفَ الخَلْقَ أَنَّ التفصيل ليس من جهة القياس والاستحقاق؛ إذ أن النحلَ ليس له خصوصية في القامة أو الصورة أو الزينة، ومع ذلك جعل منه العَسَلَ الذي هو شفاء للناس.
والإنسان مع كمال صورته، وتمام عقله وفطنته، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى فأيُّ فضيلةٍ للنحل؟ وأيُّ ذنبٍ لإنسان؟ ليس ذلك إلا إختياره سبحانه.
ويقال إن الله سبحانه أجرى سُنَّتَه أَنْ يُخْفِيَ كلَّ شيء عزيز في شيءٍ حقير؛ فجعل الإبْرَيَسْمَ في الدود وهو اضعف الحيوانات وجعل العسل في النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدُّرَّ في الصدف وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر كذلك أودع المعرفة به والمحبة له في قلوب المؤمنين وفيهم من يعصي وفيهم من يخطئ.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}.
خَلَق الإنسانَ في أحسن تركيب، وأملح ترتيب، في الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم الذكاء، ورَزَقَه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خُصَّ بها من الرأي والتدبير، ثم في آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودًا، ويرى في كل يوم أَلَمًا جديدًا.
ويقال: {وَمِنكُم مَّن يُرّدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ} وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق؛ فهو يكون في أول أحوال عمره مطيعًا ثم يصير في آخر عمره عاصيًا.
ويقال أرذل العمر أن يرغب في عنفوان شبابه في الإرادة، ويسلك طريق الله مدةً، ثم تقع له فترةٌ فيفسخ عقد إرادته، ويرجع إلى طلب الدنيا، وعند القوم وهذه رِدَّةٌ في هذا الطريق.
ويقال أرذلُ العمر رغبةُ الشيخ في طلبٍ.
ويقال أرذلُ العمر حُبُّ المرءِ للرياسة.
ويقال أرذلُ العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يُرْضِيَ خصومَه. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

{وأوحى ربّك إِلى النحل}.
انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإِلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إِلى الحديث عن النحل وما يدره من منتوج العسل ورمز إِلى ذلك الالهام الخفي بالوحي الإِلهي إِلى النحل: {أن اتّخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر وممّا يعرشون}.
وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة:
1- ما هو الوحي:
الوحي في الأصل كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى الإِشارة السريعة، ثمّ بمعنى الإلقاء الخفى.
وقد جاءت كلمة الوحي في القرآن الكريم لترمز إِلى عدّة أشياء، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى، منها:
وحي النّبوة: حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرًا. كما في الآية (51) من سورة الشورى: {وما كان لبشر أن يكلّمه اللّه إلاّ وحيًا}.
ومنها: الوحي بمعنى الإِلهام سواء كان الملُهَم منتبهًا لذلك كما في الإِنسان {وأوحينا إِلى أم موسى أن أرضعيه فإِذا خفت عليه فألقيه في اليم}، أو مع عدم انتباه المُلهم كالإِلهام الغريزي كما في النحل وهو ما ورد في الآية مورد البحث.
ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه اللّه في الكائنات الحيّة.
ومنها: أنّ الوحي بمعنى الإِشارة، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (11) من سورة مريم {فأوحى إِليهم أن سبحوا بكرة وعشيًا}.
ومنها أيضًا: إِيصال الرسالة بشكل خفي، كما في الآيه (112) من سورة الأنعام {يوحي بعضهم إِلى بعض زخرف القول غرورًا}.
2- هل يختص الإِلهام الغريزي بالنحل؟
وإِذا كان وجود الغرائز الإِلهام الغريزي غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات، فلماذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟
والإِجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية: إِنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الإِجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند الإِنسان وحياته الإِجتماعية، من عدّة جهات.
وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إِلى توحيد الخالق والإِذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.
وأشار القرآن الكريم إِلى ذلك الإِعجاز بكلمة الوحي ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها، ولعل الوحي هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إِلى الآيات السابقة.
3- المهمّة الأُولى في حياة النحل:
وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي: بناء البيت، ولعل ذلك إِشارة إِلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات، أو لعله إِشارة إِلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة، قد يكون أعجب حتى من عمليه صنع العسل.
فكيف تضع هذه المادة الشمعيه الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تمامًا، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان..
فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة، وسبحان اللّه خالق كل شيء.
4- أين مكان النحل:
وقد عينت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة، وبين أغصان الإشجار، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها الإنسان.
ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.
ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمة الثانية للنحل: {ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا}.
الذلل: جمع ذلول بمعنى التسليم والإنقياد.
ووصف الطرق بالذلل لأنها قد عينت بدقة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.
وأخيرا يعرض القرآن المهمة الأخيرة للنحل كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان {فيه شفاء}، وهو دليل على عظمة وقدرة الباري عزوجل.
بحوث:
وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى:
1- مم يتكون العسل؟
يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصة الموجودة في مياسم الأوراد، ويقول خبراء النحل: إن عمل النحل في واقعه لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للإستفادة من بعض أجزاء الورود الأخرى، وكذا الحال مع الأثمار، وهو ما يشير إليه القرآن بقوله: {من كل الثمرات}.
وقد نقل قول عالم البيئة مترلينك بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح: لو قدر أن تفنى أنواع النحل- الوحشي والأهلي- فإن مائة ألف نوع من النباتات والثمار والأوراد ستفنى، أي أن تمدننا سيفنى أيضا.
ذلك لأن دور النحل في نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إلى مياسم إناثها من الأهمية بحيث يجعل بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إنتاج العسل نفسه.