الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وقال آخر: وقال امرؤ القيس: والقيعة جمع القاع، مثل جيرة وجار، قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفية يكون السراب. واصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان. قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} أي العطشان. {ماءً} أي يحسب السراب ماء. {حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر، أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها، فهو يهلك أو يموت. {ووجد الله عنده} أي وجد الله بالمرصاد. {فَوَفَّاهُ حِسابَهُ} أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس: وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله.وقيل: وجد أمر الله عند حشره، والمعنى متقارب. وقرى {بقيعات}. المهدوي: ويجوز أن تكون الالف مشبعة من فتحة العين. ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف.وروى عن نافع وابن جعفر وشيبة {الظمان} بغير همز، والمشهور عنهما الهمز، يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة قلت: الظمان. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ابتداء {أَعْمالُهُمْ} بدلا من {الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف.
والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. {يَغْشاهُ مَوْجٌ} أي يعلو ذلك البحر اللجى موج. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب، فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب.وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج، فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما- أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها.الثاني- الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. {ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير {سحاب ظلمات} بالإضافة والخفض. قنبل {سحاب} منونا {ظلمات} بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ {من فوقه سحاب ظلمات} بالإضافة فلان السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها، كما يقال: سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ {سحاب ظلمات} جر {ظلمات} على التأكيد ل {- ظلمات}الأولى أو البدل منها. و{سَحابٌ} ابتداء و{مِنْ فَوْقِهِ} الخبر. ومن قرأ {سَحابٌ ظُلُماتٌ} فظلمات خبر ابتداء محذوف، التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} غير تام، لان قوله: {مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} صلة للموج، والوقف: على قوله: {مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} حسن، ثم تبتدئ {ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا {ظُلُماتٌ} على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب. ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر، فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا.وقيل: المراد بالظلمات الشدائد، أي شدائد بعضها فوق بعض.وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجى قلبه، وبالموج فوق الموج، ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره، أي لا يبصر بقلبه نور الايمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها.وقال أبى بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير. {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ} يعني الناظر. {لَمْ يَكَدْ يَراها} أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد، وهو معنى قول الحسن. ومعنى {لَمْ يَكَدْ} لم يطمع أن يراها.وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها، كما تقول: ما كدت أعرفه.وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد، كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة.وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال: كاد العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير، وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس: وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يهتدي به أظلمت عليه الأمور.وقال ابن عباس: أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشى به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة، كقوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].وقال الزجاج: ذلك في الدنيا والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد.وقال مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كفر في الإسلام. الماوردي: في شيبة ابن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الإسلام. قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل: نزلت في عبد الله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي: وقال أنس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبى بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور». فنزلت: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
وقال أيضا: {ثم يؤلف بينه} أي يجمعه عند انتشائه، ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف. وقرى {يؤلف} بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا قال: {يُنْشِئُ السَّحابَ} [الرعد: 12]. و{بين} لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف جاز بينه؟ فالجواب أن {بينه} هنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه لأنه جمع، وذكر الكناية على اللفظ، قال معناه الفراء. وجواب آخر- وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال: فأوقع {بين} على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة لان الكوفة أماكن كثيرة، قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز، وكان يروى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً} أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا، كقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]. والركم جمع الشيء، يقال منه: ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع. والركام: الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق بفتح الكاف جادته. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} في {الْوَدْقَ} قولان: أحدهما- أنه البرق، قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر: الثاني- أنه المطر، قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر: وقال امرؤ القيس: يقال: ودقت السحابة فهي وادقه. وودق المطر يدق ودقا، أي قطر. وودقت إليه دنوت منه.وفي المثل: ودق العير إلى الماء، أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مودق. وودقت به ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق. والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل، مثل الجبل والجبال، وهى فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في البقرة أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية: {مِنْ خِلالِهِ} على التوحيد. وتقول: كنت في خلال القوم، أي وسطهم. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ} قيل: خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا، وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء، لان التقدير عنده: من جبال برد، فالجبال عنده هي البرد. و{بَرَدٍ} في موضع خفض، ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال.وقيل: إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد، فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و{مِنْ} صلة.وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض، ف {مِنْ} الأولى للغاية لان ابتداء الانزال من السماء، والثانية للتبعيض، لان البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس، لان جنس تلك الجبال من البرد.وقال الأخفش: إن {مِنْ} في الجبال و{بَرَدٍ} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب، أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والله أعلم. {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ}فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة. وقد مضى في البقرة. والرعد أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد. {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب {يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ: وقال امرؤ القيس: فالسنا مقصور ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك قرأ طلحة بن مصرف {سناء} بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد: السنا مقصور وهو اللمع، فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الالماع. وقرأ طلحة بن مصرف: {سناء برقه} قال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة. قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع: {يذهب بالأبصار} بضم الياء وكسر الهاء، من الا ذهاب، وتكون الباء في {بِالْأَبْصارِ} صلة زائدة. الباقون {يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الأخر.وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى، وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر، قاله النقاش.وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء {لَعِبْرَةً} أي اعتبارا {لِأُولِي الْأَبْصارِ} أي لأهل البصائر من خلقي.
|