الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
واحتمل أن يكون إخباراً خاطبه بذلك على سبيل التقريع، وأم تكون منقطعة، والمعنى: بل أنت من العالين عند نفسك استخفافاً به. {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}: تقدم الكلام على ذلك في الأعراف.{قال فاخرج منها} إلى قوله: {إلى يوم الوقت المعلوم}: تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر، إلا أن هنا {لعنتي} وهناك {اللعنة} أعم. ألا ترى إلى قوله: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} وأما بالإضافة، فالعموم في اللعنة أعم، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن، هذا من جهة المعنى، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص. {قال فبعزتك لأغوينهم}: أقسم إبليس هنا بعزة الله، وقال في الأعراف: {فبما أغويتني لأقعدن} وفي الحجر: {رب بما أغويتني لأزينن} وتقدم الكلام عليهما في موضعهما، وأن من المفسرين من قال: إن الباء في: بما أغويتني، وفي: فبما أغويتني ليست باء القسم. فإن كانت باء القسم، فيكون ذلك في موطئين: فهنا: {لأغوينهم}، وفي الأعراف: {لأقعدن}، وفي الحجر: {لأزينن}. وقرأ الجمهور: فالحق والحق، بنصبهما. أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقوله: {أمانة الله لأقومن}، والمقسم عليه {لأملأن}. {والحق أقول}: اعتراض بين القسم وجوابه. قال الزمخشري: ومعناه: ولا أقول إلا الحق. انتهى، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر. والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله: {إن الله هو الحقّ المبين} أو الذي هو نقيض الباطل. وقيل: فالحق منصوب على الإغراء، أي فالزموا الحق، ولأملأن: جواب قسم محذوف. وقال الفراء: هو على معنى قولك: حقاً لا شك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، أي لأملأن جهنم حقاً. انتهى. وهذا المصدر الجائي توكيداً لمضمون الجملة، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جموداً محضاً. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة، قال: والمبتدأ يكون ضميراً نحو: هو زيد معروفاْ، وهو الحق بيننا، وأنا الأمير مفتخراً؛ ويكون ظاهراً كقولك: زيد أبوك عطوفاً، وأخوك زيد معروفاً. انتهى. وقالت العرب: زيد قائم غير ذي شك، فجاءت الحال بعد جملة، والخبر نكرة، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية. وقيل: التقدير فالحق الحق، أي افعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش: بالرفع فيهما، فالأول مبتدأ خبره محذوف، قيل: تقديره فالحق أنا، وقيل: فالحق مني، وقيل: تقديره فالحق قسمي، وحذف كما حذف في: لعمرك لأقومن، وفي: يمين الله أبرح قاعداً، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه: لأملأن. وأما {والحق أقول} فمبتدأ أيضاً، خبره الجملة، وحذف العائد، كقراءة ابن عباس: {وكلاًّ وعد الله الحسنى} وقال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء، وخبره في قوله: {لأملأن}، لأن المعنى: أن أملأ. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن لأملأن جواب قسم، ويجب أن يكون جملة، فلا يتقدر بمفرد.وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري، والفعل حتى ينحل إليهما، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ، حكم أنه خبر عنه. وقرأ الحسن، وعيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر: بجرهم، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره: فوالحق، والحق معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه. وقال الزمخشري: {والحق أقول}: أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع، وهو وجه دقيق حسن. انتهى. وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصباً أو رفعاً أو جراً. وقرأ مجاهد، والأعمش: بخلاف عنهما؛ وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف، والعبسي: برفع فالحق ونصب والحق، وتقدم إعرابهما. والظاهر أن قوله: {أجمعين} تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه، أي منك ومن تابعيك أجمعين. وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيداً للضمير الذي في منهم، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم. انتهى. والضمير في عليه عائد على القرآن، قاله ابن عباس. وقيل: عائد على الوحي. وقيل: على الدعاء إلى الله. {وما أنا من المتكلفين}: أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فانتحل النبوة والقول على الله. {إن هو}: أي القرآن، {إلا ذكر}: أي من الله، {للعالمين}: الثقلين الإنس والجن. {ولتعلمنّ نبأه}: أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه، {بعد حين}، قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة. وقال قتادة، والفراء، والزجاج: بعد الموت. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وقيل: المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقول. {بعد حين}: أي في المستأنف، إذا أخذتكم سيوف المسلمين، وذلك يوم بدر، وأشار إلى ذلك السدّي.
أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن، وكرر في قوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب} على جهة التفخيم والتعظيم، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظاً فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى: تنزيل بالنصب، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية: قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، وكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب}، والعزيز في قدرته، الحكيم في ابتداعه. والكتاب الثاني هو القرآن، لا يحتمل غير ذلك. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال، أي ملتبساً بالحق، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل به، أو يكون بالحق: بالدليل على أنه من عند الله، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية: أي متضمناً الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله.انتهى ملخصاً.ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق، وكان الحق إخلاص العبادة لله، أمره تعالى بعبادته فقال: {فاعبد الله}، وكأن هذا الأمر ناشئ عن إنزال الكتاب، فالفاء فيه للربط، كما تقول: أحسن إليك زيد فاشكره. {مخلصاً}: أي ممحضاً، {له الدين}: من الشرك والرياء وسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور: الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع فاعلاً بمخلصاً، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين، أي الدين منك، أو يكون أل عوضاً من الضمير، أي دينك. وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام، كقوله تعالى: {وأخلصوا دينهم لله} حتى يطابق قوله: {ألا لله الدين الخالص}، والخالص والمخلص واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر. وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد، وله الدين مبتدأ وخبر، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصاً، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. {ألا لله الدين الخالص}: أي من كل شائبة وكدر، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن: الدين الخالص: الإسلام؛ وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله.{والذين اتخذوا}: مبتدأ، والظاهر أنهم المشركون، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله: {ما نعبدهم}، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء {إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، واحتمل أن يكون الخبر: {إن الله يحكم بينهم}، وذلك القول المحذوف في موضع الحال، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر {إن الله يحكم}، وقالوا: المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين، فلا يكون له موضع من الإعراب، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله: قالوا ما نعبدهم، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير، وأجاز الزمخشري أن يكون {والذين اتخذوا} بمعنى المتخذين، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وأولياء مفعول ثان، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر، وهذه المقالة شائعة في العرب، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد: وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز، وقوم من النصارى في المسيح. وقرئ: ما نعبدهم بضم النون، اتباعاً لحركة الباء.{إن الله يحكم بينهم}: اقتصر في الرد على مجرد التهديد، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه السلام الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله، يعذبهم بها، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم.واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل: الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين.{إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}: كاذب في دعواه أن لله شريكاً، كفار لأنعم الله حيث، جعل مكان الشكر الكفر، والمعنى: لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام، والمعنى على الخصوص: فكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية: لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري: المراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر: كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي: كذوب وكفور.ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله، وعبدوها عقبه بقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً}، تشريفاً له وتبنياً، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف، {لاصطفى}: أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني، والاصطفاء قوله: {مما يخلق}: أي من التي أنشأها واخترعها؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال: {سبحانه}، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه محالاً، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه، وهم الملائكة، إلا أنك لجهلكم به، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولاداً، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم، فجعلتموهم بنات، وكنتم كذابين كفارين مبالغين في الافتراء على الله وملائكته. انتهى والذي يدل على تركيب لو وجوابها أنه كان يترتب اصطفاء الولد مما يخلق على تقدير اتخاذه، لكنه لم يتخذه، فلا يصطفيه. وأما ما ذكره الزمخشري من قوله يعني: لو أراد إلى أخره، وقوله: بعد، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ماشاء الله من خلقه، وهم الملائكة، فليس مفهوماً من قوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء}.ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير: تطويل منهما على الآخر، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس: يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك: يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري: وفيه أوجه: منها أن الليل والنهار خلفة، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. {ألا هو العزيز الغفار}: العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذي لا يعجل، سمى الحلم غفراناً مجازاً.ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم، فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء، فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل: ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أي من نفس وحدت، أي انفردت.{ثم جعل}، قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {ثم جعل منها زوجها}، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها فضلاً ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.انتهى. وأما {ثم جعل منها زوجها}، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء، ووصف الأنعام بالإنزال مجازاً ما، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشئ عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها، فيكون مثل قول الشاعر: أي: في سحابه، وقال آخر: وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز، {ثمانية أزواج}، لأن كلاً منها ذكر وأنثى، والزوج ما كان معه آخر من جنسه، فاذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى: {فجعل منها الزوجين الذكر والأثنى} قال ابن زيد: {خلقاً من بعد خلق}: آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي: رتبا {خلقاً من بعد خلق} على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال: حيواناً سوياً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة: يخلقكم، بإدغام القاف في الكاف، والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن. {ذلكم}: إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال. {فأنى تصرفون}: أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟{إن تكفروا}، قال ابن عباس: خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده: هم المؤمنون، ويؤيده قوله قبله: {فأنى تصرفون}، وهذا للكفار، فجاء {إن تكفرو} خطاباً لهم، {فإن الله غني عنكم}، وعن عبادتكم، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مخاطباً لجميع الناس، لأنه تعالى غني عن جميعهم، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام، فقيل: المراد الخصوص، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنى الإرادة، فعلى هذا صفة ذات. وقيل: المراد العموم، كما دل عليه اللفظ، والرضا مغاير للإرادة، عبر به عن الشكر والإثابة، أي لا يشكره لهم ديناً ولا يثيبهم به خيراً، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والأثابة. قال ابن عطية: وتأمل الإرادة، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري: ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} يريد المعصومين لقوله: {عيناً يشرب بها عباد الله} تعالى الله عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة، وأطلق عليهم اسم الظالمين، وذلك من سفهه وجرأته، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه: {وإن تشكروا يرضه لكم}، قال ابن عباس: يضاعف لكم، وكأنه يريد ثواب الشكر؛ وقيل: يقبله منكم. قال صاحب التحرير: قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا: تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكراً في قوله: {اعلموا آل داود شكراً} انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان، وابن كثير: يرضه بوصل ضمة الهاء بواو؛ وابن عامر وحفص: بضمة فقط؛ وأبو بكر: بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله: {ولا تزر} إلى: {بذات الصدور}، تقدم الكلام عليه.
|